الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} أكثرَ الناسُ الكلام في هذه الآية حتى ألفوا فيها التآليف، فمنهم مُفْرِط ومفرّط، وذلك أن منهم من جعل همّ المرأة وهمّ يوسف من حيث الفعل الذي أرادته، وذكروا في ذلك روايات من جلوسه بين رجليها، وحلت التكة وغير ذلك، مما لا ينبغي أن يقال به لضعف نقله، ولنزاهة الأنبياء عن مثله، ومنهم من جعل أنها همت به لتضربه على امتناعه وهمّ بها ليقتلها أو يضربها ليدفعها وهو بعيد، يرده قوله: لولا أن رأى برهان ربه، ومنهم من جعل همها به من حيث مرادها وهمه بها ليدفعها، وهذا أيضًا بعيد، لاختلاف سياق الكلام، والصواب إن شاء الله: إنها همت به من حيث مرادها وهمّ بها كذلك، لكنه لم يعزم على ذلك، ولم يبلغ إلى ما ذكر من حل التكة وغيرها؛ بل كان همه خطرة خطرت على قلبه لم يطعها ولم يتابعها، ولكنه بادر بالتوبة والإقلاع عن تلك الخطرة حتى محاها من قلبه لما رأى برهان ربه، ولا يقدح هذا في عصمة الأنبياء لأن الهمّ بالذنب ليس بذنب ولا نقص عليه في ذلك، فإنه من همَّ بذنب ثم تركه كتبت له حسنة: {لولا أَن رَّأَى برهان رَبِّهِ} جوابه محذوف تقديره: لولا أن رأى برهان ربه لخالطها، وإنما حذف لأن قوله همّ بها يدل عليه، وقد قيل: إن {هم بها} هو الجواب، وهذا ضعيف لأن جواب لولا لا يتقدم عليها، واختلف في البرهان الذي رآه، فقيل ناداه جبريل يا يوسف أتكون في ديوان الأنبياء وتفعل فعل السفهاء، وقيل: رأى يعقوب ينهاه، وقيل: تفكر فاستبصر، وقيل: رأى زليخا غطت وجه صنم لها حياء منه، فقال: أنا أولى أن أستحي من الله: {كذلك لِنَصْرِفَ عَنْهُ} الكاف في موضع نصب متعلقة بفعل مضمر، التقدير: ثبتناه مثل ذلك التثبيت، أو في موضع رفع تقديره: الأمر مثل ذلك: {السوء والفحشاء} خيانة سيده والوقوع في الزنا: {المخلصين} قرئ بفتح اللام حيث وقع أي الذين أخلصهم الله لطاعته، وبالكسر أي الذي أخلصوا دينهم لله.{واستبقا الباب} معناه: سبق كل واحد منهما صاحبه إلى الباب فقصد هو الخروج والهروب عنها، وقصدت هي أن تردّه، فإن قيل: كيف قال هنا الباب بالإفراد وقد قال بالجمع وغلقت الأبواب فالجواب أن المراد هنا الباب البرّاني الذي هو المخرج من الدار: {وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ} أي قطعته من وراء، وذلك أنها قبضت قميصه من خلفه لتردّه فتمزق القميص، والقدّ القطع بالطول، والقّطُّ القطع بالعرض: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا} أي وجدا زوجها عند الباب: {قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سواءا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ} لما رأت الفضيحة عكست القضية، وادعت أن يوسف راودها عن نفسها، فذكرت جزاء كل من فعل ذلك على العموم، ولم تصرح بذكر يوسف لدخوله في العموم، وبناء على أن الذنب ثابت عليه بدعواها، وما جزاء يحتمل أن تكون ما نافية أو استفهامية: {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي} برّأ نفسه من دعواها: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ} قيل: هو ابن عمها وقيل: كان طفلًا في المهد فتكلم، وكونه من أهلها أوجبُ للحجة عليها وأوثق لبراءة يوسف، وكونه لم يتكلم قط، ثم تكلم بذلك كرامة ليوسف عليه السلام، والتقدير شهد شاهد فقال: أو ضمنت الشهادة معنى القول: {إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ} لأنها كانت تدافعه فتقدّ قميصه من قبل: {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ} لأنها جذبته إلى نفسها حين فرّ منها فقدّت قميصه من دبر: {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ} فاعل رأى زوجها أو الشاهد: {إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ} الضمير للأمر أو لقولها ما جزاء: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا} أي اكتمه ولا تحدث به، ويوسف منادى حذف منه حرف النداء لأنه قريب، وفي حذف الحرف إشارة إلى تقريبه وملاطفته: {واستغفري لِذَنبِكِ} خطاب لها، وذلك من كلام زوجها أو من كلام الشاهد: {مِنَ الخاطئين} جاء بلفظ التذكير، ولم يقل من الخاطئات تغليبًا للذكور. اهـ.
|